كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة {يقولون} في موضع المفعول الثاني.
والتقدير: ألم تَرَهم قائلين.
وجيء بالفعل المضارع لقصد تكرر ذلك منهم، أي يقولون ذلك مؤكّدينه ومكرِّرينه لا على سبيل البداء أو الخاطر المعدول عنه.
و{الذين نافقوا} المخبر عنهم هنا هم فريق من بني عوف من الخزرج من المنافقين سمي منهم عبد الله بنُ أُبيّ ابنُ سلول، وعبد الله بن نبتَل، ورفاعة بن زيد، ورافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، ووديعة بن أبي قوتل، أو ابن قوقل، وسويد (لم يُنسب) وداعس (لم ينسب)، بَعثوا إلى بني النضير حين حاصر جيش المسلمين بني النضير يقولون لهم: اثبتوا في معاقلكم فإنَّا معكم.
والمراد بإخوانهم بنو النضير وإنما وصفهم بالإِخوة لهم لأنهم كانوا متّحدين في الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وليست هذه أخوة النسب فإن بني النضير من اليهود، والمنافقين الذين بَعثوا إليهم من بني عوف من عرب المدينة وأصلهم من الأزد.
وفي وصف إخوانهم بـ {الذين كفروا} إيماء إلى أن جانب الأخوة بينهم هو الكفر إلا أن كفر المنافقين كفرُ الشرك وكفر إخوانهم كفر أهل الكتاب وهو الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولام {لئن أخرجتم} موطئة للقسم، أي قالوا لهم كلامًا مؤكدًا بالقسم.
وإنما وعدوهم بالخروج معهم ليطمئنُّوا لنصرتهم فهو كناية عن النصر وإلاَّ فإنهم لا يرضون أن يفارقوا بلادهم.
وجملة {ولا نطيع فيكم أحدًا} معطوفة على جملة {لئن أخرجتم} فهي من المقول لا من المقسَم عليه، وقد أُعريت عن المؤكد لأن بني النضير يعلمون أن المنافقين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين فكان المنافقون في غنية عن تحقيق هذا الخبر.
ومعنى {فيكم} في شأنكم، ويعرف هذا بقرينة المقام، أي في ضركم إذ لا يخطر بالبال أنهم لا يطيعُون من يَدعوهم إلى موالاة إخوانهم، ويقدر المضاف في مثل هذا بما يناسب المقام.
ونظيره قوله تعالى: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم} [المائدة: 52] أي في الموالاة لهم.
ومعنى {لننصرنكم} لنعيننكم في القتال.
والنصر يطلق على الإِعانة على المعادي.
وقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم كاذبون في ذلك بعد ما أعلمه بما أقسموا عليه تطمينًا لخاطره لأن الآية نزلت بعد إجْلاء بني النضير وقبل غزو قريظة لئلا يتوجس الرسول صلى الله عليه وسلم خِيفة من بأس المنافقين، وسمى الله الخبر شهادة لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر في شأنها.
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)}
بيان لجملة {والله يشهد إنهم لكاذبون} [الحشر: 11].
واللام موطئة للقسم وهذا تأكيد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يضرّوه شيئًا لكيلا يعبأ بما بلغه من مقالتهم.
وضمير {أخرجوا} و{قوتلوا} عائدان إلى {الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11]، أي الذين لم يخرجوا ولما يقاتلوا وهم قريظة وخيبر، أما بنو النضير فقد أُخْرِجُوا قبل نزول هذه السورة فهم غير معنيين بهذا الخبر المستقبل.
والمعنى: لئن أخرج بقية اليهود في المستقبل لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا في المستقبل لا ينصرونهم.
وقد سلك في هذا البيان طريق الإِطناب.
فإن قوله: {والله يشهد إنهم لكاذبون} [الحشر: 11] جمع ما في هاتين الجملتين فجاء بيانه بطريقة الإِطناب لزيادة تقرير كذبهم.
{يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الادبار ثُمَّ لاَ}.
ارتقاء في تكذيبهم على ما وعدوا به إخوانهم، والواو واو الحال وليست واو العطف.
وفعل نصروهم إرادة وقوع الفعل بقرينة قوله: {ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} فيكون إطلاق الفعل على إرادته مثل قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية} [المائدة: 6] وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
وقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة: 226]، أي يريدون العود إلى ما امتنعوا منه بالإِيلاء.
والمعنى: أنه لو فرض أنهم أرادوا نصرهم فإن أمثالهم لا يترقب منهم الثبات في الوغَى فلو أرادوا نصرهم وتجهّزوا معهم لفرّوا عند الكريهة وهذا كقوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا ولأوضعوا خلالكم} [التوبة: 47].
ويجوز أن يكون أطلق النصر على الإِعانة بالرجال والعتاد وهو من معاني النصر.
و{ثمّ} في قوله: {ثم لا ينصرون} للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل فإن انتفاء النصر أعظم رتبة في تأييس أهل الكتاب من الانتفاع بإعانة المنافقين فهو أقوى من انهزام المنافقين إذا جاؤوا لإِعانة أهل الكتاب في القتال.
والنصر هنا بمعنى: الغلب.
وضمير {لا ينصرون} عائد إلى الذين كفروا من أهل الكتاب إذ الكلام جارٍ على وعد المنافقين بنصر أهل الكتاب.
والمقصود تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتأمينهم من بأس أعدائهم.
{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)}
لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفُسسِ المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وُصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية.
والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوّهم مُرهَب منهم، وذلك مما يزيد المسلمين إقدامًا في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.
والصدور مراد بها: النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور.
والرَّهبة: مصدر رهب، أي خاف.
وقوله: {في صدورهم} ل {رهبة} فهي رهبة أولئك.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {الذين نافقوا} [الحشر: 11] و{الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11] إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما، ولأن المقصودِين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعوانًا لهم.
وإسناد {أشَدّ} إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببيّ كأنه قيل: لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبة فيها.
فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله، وكل مصدر لفعل متعدّ يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية.
و{من الله} هو المفضل عليه، وهو على حذف مضاف، أي من رهبة الله، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ** على وَعِللٍ في ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وَعل.
وهذا تركيب غريب النسج بديعه.
والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال: لَرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله، فحُوّل عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية، ليتأتّى الابتداء بضمير المسلمين اهتمامًا به وليكون متعلّق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإِجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبًا} [مريم: 4] دون: واشتعل شيبُ رأسي.
وليتأتى حذف المضاف في تركيب {من الله}، إذ التقدير: من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلًا بلفظ {رهبة}، إذ لا يحسن أن يقال: لرهبتهم أشد من الله.
وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى: {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية} في سورة [النساء: 77].
فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله.
أما اليهود فلأنهم أهل دين فَهُم يخافون الله ويحذرون عقاب الدنيا وعقاب الآخرة.
وأما المنافقون فهم مشركون وهم يعترفون بأن الله تعالى هو الإله الأعظم، وأنه أولى الموجودات بأن يخشى لأنه ربّ الجميع وهم لا يثبتون البعث والجزاءَ فخشيتهم الله قاصرة على خشية عذاب الدنيا من خسف وقحط واستئصال ونحو ذلك وليس وراء ذلك خشية.
وهذا بشارة للنبيء والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوّهم كما قال النبي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر.
ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإِشارة إلى أنها رهبة جدُّ خفيّة، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله على دخيلتهم فليس قوله: {في صدورهم} وصفًا كاشفًا.
وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم ثُنّي عنان الكلام إلى مذمّة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوفَ للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلموا صدقهُ فنجَوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين.
فالجملة معترضة بين البيان ومبيّنه.
والإِشارة بذلك إلى المذكور من قوله: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} واجتلاب اسم الإِشارة ليتميز الأمر المحكوم عليه أتم تمييز لغرابته.
والباء للسببية والمجرورُ خبر عن اسم الإِشارة، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم.
وإقحام لفظ {قوم} لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعًا وصار من مقومات قَوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} إلى قوله: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164].
والفقه: فهم المعاني الخفية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حديثا} في سورة [النساء: 78]، وقوله: {انظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون} في سورة [الأنعام: 65]، ذلك أنهم تَبِعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب عن أبصارهم، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيّات.
{لاَ يقاتلونكم جَمِيعًا إِلاَّ في قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} [الحشر: 13]، لأن شدة الرهبة من المسلمين تشتمل على شدة التحصّن لقتالهم إياهم، أي لا يقدرون على قتالكم إلاّ في هاته الأحوال والضمير المرفوع في {يقاتلونكم} عائد إلى {الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11].